7 août 2025 | Débats de Souverains

سبينوزا في غزّة

« لم يعدهم بالجنة، بل بالوضوح »


سبينوزا في غزّة


فكرةٌ صارت لحمًا في قلب الإبادة
حين تهبط الفلسفة إلى تحت الأنقاض

بحثت عنه شهورًا. قيل لي إنّ رجلًا غريبًا يعيش في مخيمات الجنوب، بلحية قصيرة، وحركات بطيئة، وصوت هادئ. رجل يُداوي بلا زيّ رسمي، ويُفكّر بلا كتاب. لا يُصلّي أبدًا، لكنّه يتحدث عن الله طيلة النهار

قابلتُ سبينوزا. نعم، باروخ سبينوزا، فيلسوف أمستردام، الذي نُبذ من قِبل قومه لأنّه أراد أن يُفكّر في الله بطريقة أخرى. هو نفسه. هنا في غزّة. لم يعتكف في أنقاض مكتبة، بل نزل إلى لحم العالم

ما الذي تفعله هنا؟ –


جئت لأرى إن كانت أفكاري قادرة على الوقوف تحت الركام. الفلسفة لا جدوى منها إن لم تقف في وجه الألم

أخذني إلى عيادة مؤقتة، حيث أطفال محروقون ينتظرون بصمت. كان يُحدثهم بلا وعود. يشرح لهم. ما هو الخوف. ما هوالغضب. ما هو الفرح
«الحرية، قال لهم، تبدأ حين نفهم ما الذي يدمّرنا»

قرأتُ أمامه آخر الأخبار العاجلة: كندا وفرنسا والمملكة المتحدة تفكّر في الاعتراف بدولة فلسطين. تَحوُّل طفيف. وعي متأخّر. إرادة توازن، هكذا قيل. هزّ كتفيه وقال “أن تعترف بشعب ساهمت في دفنه، هو كمن يُكرّم الموتى بعد أن سلّح جلاديهم
أن تتحدث هذه الدول، بعد أشهر وسنين من الصمت، ومن بيع السلاح، ومن الفيتوهات، عن الاعتراف... أليس هذا اعترافًا مُخزيًا تُخفيه وراء لفتة نبيلة؟ شكل من أشكال التبييض الأخلاقي

لم يكن ساخرًا، ولا مريرًا. بل كان بصيرًا
لا يكفي أن تعترف بفلسطين لتُصلح. ينبغي أن تبدأ بالاعتراف بنفسك، بما سكتّ عنه، بما دعمته، بما تجاهلته. من دون الحقيقة، لا قيمة لأي اعتراف

سبينوزا لا يؤمن بالكيانات المجرّدة. ولا بالأعلام. ولا بالحدود كأنّها عقيدة. “الدولة، كما قال، لا تكون عادلة إلّا إن ضمنت لكلّ إنسان حرية التفكير والعيش بلا خوف
لم يُنكر حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم، بل على العكس. لكنّه رفض أن يُستخدم هذا الحقّ كستار أخلاقي من قِبل من سلّح طرفًا وساهم، بشكل غير مباشر، في مجزرة الطرف الآخر

اعتراف بلا تعويض، هو تصريح بلا أخلاق، قال وأضاف: “أوروبا، التي بلغت عصر الأنوار بعد قرون من الظلام، تستعمل العقل اليوم كأداة دبلوماسية، لا كمطلب وجودي

تحت خيمة تدفّئها نار الحطام، كان يشرح للشباب معنى الله. عنده: “الله ليس إرادة خارجيّة، بل هو ضرورة الوجود نفسه. أنتم في الله. هذه الحجرة في الله. تلك القوة التي تدفعكم للاستمرار رغم كل شيء، هي الله

سأله فتى: “لكن أليس الله يترك هذا الخراب يحدث؟
اقترب منه وقال: “الله لا يسمح ولا يمنع. هو كلّ ما هو كائن. السؤال الحقيقي: ماذا تفعل بهذه القدرة التي فيك؟

المقاومة، عند سبينوزا، لم تكن مجرّد موقف سياسي، بل كانت وجودية. أن تكون ما أنت عليه بالكامل: كائنًا مفكرًا، فاعلًا، قادرًا على الفهم، هذا هو جوهر المقاومة

سبينوزا لا يؤمن بالحلول المفروضة من الأعلى. ولا بالسلام كمنتج دبلوماسي
“السلام الحقيقي ليس نهاية القنابل، بل نهاية الخوف المتبادل. لا يُبنى سلام دائم على أنقاض العار يجب أن يستعيد كلّ طرف، من الطرفين، قوّته الذاتية من دون رغبة في الهيمنة على الآخر
وهذا يتطلّب تحوّلًا في النظرة. نزع سلاح داخلي. ولا يُمكن لأي اتفاقية أن تضمن ذلك»

قبل أن أغادره، سألته: ماذا كنت لتقول لإيمانويل ماكرون؟ أو لمارك كارني؟ أو لرئيس وزراء بريطانيا؟
ابتسم بهدوء وقال: كنت سأقول لهم: لا تعترفوا بفلسطين لتُسكّنوا ضمائركم. اعترفوا أولًا بتواطئكم في تدميرها
اعترفوا بأنّ مصالحكم كانت أثقل من العدالة
عندها فقط، قد يصبح اعترافكم فعلَ حقيقة، لا مجرد عرضٍ إعلامي
الاعتراف الحقيقي ليس دبلوماسيًا، بل أخلاقي

رأيته يختفي وسط جموع سوق مدمّر أغلبه، يحيط به أطفال يصغون إليه أكثر ممّا يصغون لأساتذتهم، لأنه لم يعدهم بالجنة، بل بالوضوح

وجود سبينوزا في غزة، لم يكن ليُحدّث الناس عن مثاليات مجردة. بل ليفكّر معهم على الأرض، حيث تولد الإنسانية من جديد في كل لحظة

لم يكن هناك وقت لتقاسم كوب شاي معه. ولا حتى كوب ماء
كان هناك جرحى ينبغي إسعافهم. وعمّ يُدفن. وصمتٌ يُحترم. وأطفالٌ بحاجة للطمأنينة
الفلسفة هنا، لا تُرتشف على مهلٍ في ركن مائدة. بل تُهمس بين طلقتين. بين انفجارين

لكن، قبل أن يغادر، انتزعت منه كلماته الأخيرة
لن نخرج من هذه الحرب بالخُطب”
سنخرج منها حين يتحلّى الرجال بالشجاعة لينظروا في أعين بعضهم البعض
لا ليُدينوا
بل ليفهموا
ليفهموا أن خلف السابع من أكتوبر 2023، تكمن مظلمةٌ قديمة وعميقة
سيطرة الأقوياء على الضعفاء

لم يُحدّد من هم الأقوياء، ولا من هم الضعفاء
كان يعلم أنّ هذه التصنيفات زئبقية، خادعة
لكنّه تحدّث عن اختلال قديم. عن ميزان قوى تحوّل إلى نظام، إلى منطق، إلى تلقائية
تحدّث عن عنف بنيوي، متنكر في هيئة قانون، متشح باسم الأمن، تُغذّيه الصمت

كلماته. “سيطرة الأقوياء على الضعفاء” لم تكن دعوة للثأر. ولا حتى صرخة تمرد
بل كانت دعوة للفهم الجذري

فهم الأسباب
فهم الإهانات المتراكمة
فهم المخاوف المُستثمرة
فهم ما يجعل السلام مستحيلًا، والحرب حتمية
وربما، من خلال الفهم، يبدأ نزع السلاح
أولًا من الفكر. ثم من اليد

بين يديّ دفتر، وملاحظات كتبتها على عجل، مسوّدة حقيقة أعجز عن صياغتها كاملة
فرميت بها في قاع زجاجة
وحين تنتهي الحرب، سيعثر عليها أحدهم


حتى في غزة، وسط إبادة، ظلّت الفكرة قادرة على التنفّس

محمد لطفي



ML/2025

سبينوزا في غزّة

Plus de contenus